السلام عليكم
أرجو أن تعزرني على طول هذه الرسالة وأن تتحمل قراءتها إلى النهاية وذلك لما بها من معلومات مهمة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أخي الفاضل, منذ الصغر و ذاكرتي لم تكن قوية كما ينبغي, وأعتقد أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى ترجيحي لكفة اللعب واللهو على أي كفة أخرى, ويبدو أن والدي قد لاحظ هذه الصفة, فاصر أن يعالجها وقد تبنى في ذلك طرائق قددا, فكان يتعمد مثلاً أن يرسلني للبقال لشراء أي شيء من لوازم البيت البسيطة, ولكي أنجز هذه المهمة بسلام كنت وأنا في الطريق من البيت إلى البقال دائماً ما أكرر ما قاله لي أبي في سري عدة مرات حتى لا أنساه عند باب البقالة, لكن الحمد لله, كنت في أغلب الأحوال أنجح في أداء المهمة وأنجز ما طلبه مني والدي بالحرف الواحد, بعدها بالطبع كنت أحصل على مكافأة نظير ذلك, هذه المكافأة كانت في العادة عبارة عن المبلغ المتبقي من قيمة الشيء الذي اشتريته, علاوة على عبارات المديح والإطراء مثل “راجل” “شاطر” “جدع” الخ…
ما كنت أقوم به قد يبدو لك يا عزيزي أنه أمر سهل, ولا يحتاج إلى كل هذا المديح والإطراء المبالغ فيه, وأنا مثلك كنت أعتقد ذلك, لكن مع مرور الأيام أدركت أن هذا الإطراء ورائه سر أخر, فقد كان والدي يجهزني لخطوة تالية أشد صعوبة وأكثر تطوراً من أختها سالفة الذكر, فبعد ما كان يكلفني بشراء شيء واحد فقط, شرع والدي -متعه الله بالصحة- في تطوير الهجوم حيث بدأ يكلفني بشراء أكثر من شيء مرة واحدة, وكنت أسأل نفسي ساعتها واتمتم متذمراً كيف لصغير مثلي أن يحفظ كل هذا الكم من الأشياء, لم أكن أدرك ساعتها أن والدي يدربني على الاعتماد على الذات, لذا كنت أعتبر أن هذا الأسلوب ينطوي على شيء من الغبن والإجحاف؟
كنت أفضل وقتئذ أن يرسلوني عدة مرات لشراء شيء واحد أفضل بكثير من أن يرسلوني مرة واحدة لأشتري عدة أشياء, وذلك لأني حينما كنت أكلف بشراء عدة أشياء مرة واحدة كان النسيان يعتريني بكل تأكيد, ولم تكن تفلح معه طريقة تكراري لأسماء الأشياء لكثرتها وتنوعها, لذا في أغلب الأحيان كنت أنسى منها الكثير عند رؤيتي للبقال, وكنوع من التظاهر السلمي ورد الفعل المضاد كنت أشتري بكامل المبلغ الذي أعطاه لي والدي حلوى وأشياء أخرى كثيرة مما يهواها الصغار وأكبر دماغي ولا أشتري ما طلبه مني أبي, كنت أقوم بهذا السلوك الغير حسن لأني كنت أدرك أني في حالة عدم تمكني من شراء ما طلب مني بالضبط, كانوا سيقولون علي أنني لست “شاطر” وهذا اللقب كان يزعجني كثيراً , لذا كنت أفضل الحصول على لقب “شقي” أحسن بكثير من اتهامي بعدم الشطارة.
لكن بفضل الله بعدما كبرت قليلاً ودخلت المدرسة بدأت ذاكرتي تتحسن شيئاً فشيئاً والسر في ذلك يعود لسببين: الأول أني أوليت شيء من اهتمامي للمذاكرة, والثاني: أني اخترعت طريقة عجيبة لأتذكر بها المعلومات المملة التي كانت تمتلئ بها الكتب المدرسية آنذاك, هذه الطريقة كانت تعتمد بالدرجة الأولى على (التخيل والتصوير), فمثلاً لكي أتذكر أن (مذبحة القلعة) حدثت في عام 1811م, كنت أتخيل صورة محمد على باشا الكبير معلقة على الحائط, وشاربه الطويل الأبيض يخرج طرفاه من إطار الصورة كجناحي “أبو قردان”, على الطرف الأول منه خنجر وبجواره ثمانية سيوف وهذا يرمز بالطبع إلى أول رقمين من تاريخ حدوث هذه المذبحة وهو 18, وعلى الطرف الثاني كان يقف إحدى عشر جندي من جنود المماليك بعمائمهم الضخمة التي كانت تميزهم, وبذلك يكتمل التاريخ ليكون 1811 بالتمام والكمال, ورغم أن هذه الطريقة كانت تعمل معي بنجاح, إلا أنها كانت تحتوي على عيب واحد, هذا العيب هو أني أثناء النوم كنت أحلم بأشباح المماليك تهرول ناحيتي و تحاول أن تكتم على أنفاسي.
أما أثناء استذكار دروس اللغة العربية فلن ألومك –أخي الفاضل- إن ضحكت على طريقتي هذه حتى مطلع الفجر, فلكي أحفظ الأشعار والأناشيد الصعبة, تخيلت في مرة من المرات أني دخلت إلى البيت فوجدت أحد الفتية يختبئ في حجرة المطبخ, وبيده حقيبة كبيرة يخفي فيها كل أواني المبطخ الخاصة بنا, وأثناء قيامه بذلك يقع عليه رف من الرفوف فيصيبه بجرح عميق في راسه, بالطبع كنت أتخيل هذا الموقف لكي أتذكر أبيات للبارودي يقول فيها:
يود الفتى أن يجع الأرض كلها إليه … ولما يدر ما الله صانع
فقد يستحيل المال حتفاً لربه… وتأتي على أعقابهن المطامع
عزيزي القارئ:
نكتفي بهذا القدر من الرسالة وذلك لتوضيح شيء هام له علاقة بموضوع مقالنا اليوم.
ما فهمناه من نص الرسالة السابقة, أن صديقي المدعو (ش, غ, ح) كان يتحدى النسيان باستخدام طريقة أطلق عليها (طريقة التخيل والتصوير), وهو يعتقد أن هذه الطريقة من اختراعه, لكن في واقع الأمر هذه الطريقة ليست من اختراعه كما يظن, وذلك لأن هذه الطريقة ما هي إلا صورة ساذجة لطريقة علمية مشهورة تسمى ” قصر الذاكرة” بفتح القاف وتسكين الصاد أو باللاتينية (The method of loci) وهذه الطريقة تدرس الآن في كثير من المراكز التدريبية وورش العمل وهي طريقة سحرية وعجيبة تمكن الإنسان من تذكر كم هائل من المعلومات مع أدق التفاصيل المتعلقه بها بما في ذلك الأرقام الطويلة, حتى أن بعض أجهزة المخابرات والمؤسسات الصحفية الكبرى في عدة دول متقدمة تدرسها لمنتسبيها لما فيها من أهمية كبيرة.